على تلك الدرب، ابتسامة أيهم بوصلتي... لا موته


لم أكن قد أكملت أعوامي العشرة حين قرأت رواية «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف. لم يكن هناك في أدب الأطفال ما يكفي لإشباع رغبتي في القراءة أو لمقاومة الملل في مدينة تحاصرها الحروب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي، فشرعت بقراءة ما استسهلت من مكتبة والديّ.
أمي التي هالها أن تراني قد أكملت الرواية كأنها تظن أنّ الواقع الذي كنا نعيشه كان أقل ألماً أو سوريالية سألتني رأيي في الكتاب:
- عادي
- ما زعجك؟
- مش عارفة...
- شو؟
- في ناس عنجد بتعمل هيك؟ يعني معقول في سجون متل هيك؟
لم أتمكن من إعادة قراءة الكتاب منذ ذلك الحين، ولم يبق في ذاكرتي منه إلا بضعة مشاهد لا أستطيع الجزم إن كانت فعلاً قد وردت في الرواية. في أحدها، يوضع رأس سجين سياسي داخل كيس مع قطط عدة، ومن ثم تجلد القطط لتنهش وجهه. هالني حينها قدرة سجاني «شرق المتوسط» على ابتداع وسائل تعذيب كهذه.
وقفت أمام المرآة لدقائق اتفحص تجعيدة القلق التي بدأت تظهر على جبيني، وأمارس تقنية استرخاء عضلات الوجه التي نصحتني بها صديقتي. تقنية الاسترخاء لا تفيد، فالتوتر يأكل معدتي وكل الدموع التي تنهمر يومياً لا تكفي لتغسل إحساسي بالذنب والعار. لقد وقفت أمامهم عاجزة وهم يقتلونه. نظرت إلى عينيه، وكان كأنه لا يراني. شاهدتهم وكان بحوزتي مسدس، لكنّي من شدة الخوف لم أقوَ على انتشاله. كان اسمه أيهم، وكان يحب أكل الفشار بالزبدة، وكنت أحب أن أعانده كلما أراد أن يشاهد التلفاز.
وصلني منذ فترة خبر موته تحت التعذيب في أحد معتقلات شرقيّ المتوسط. شاب كنت قد التقيته سريعاً في بيروت، أياماً قليلة قبل اعتقاله. بسنواته العشرين وابتسامته الهادئة، بدا أكثر براءةً من أن يدخل السجن. قضى أيهم بعد ثلاثة أيام من اعتقاله فقط. لم يحتمل جسده خيال سجاني الرواية. لبطل رواية منيف في خيالي اليوم، داخل ذلك الكيس، وجه أيهم.
ذلك لم يحصل، لكنه حصل. أنا لا أعرفه، ذاك الذي استشهد مرتين. أنا أبكي دون أن أشهد على اغتيال أحد إلا إلكترونياً. أنا أبكي على نفسي وعلى العمر الذي يمضي وعلى مجرد الفكرة التي مرت، أنني من الممكن أن أحقن عضلاتي بالبوتوكس لكي لا يرى من حولي، أنّي قد كبرت أكثر من عشر سنوات في السنتين الأخيرتين. نعم، أريد أن أغشكم جميعاً لتخالوني بطلة فيلم هوليوودي، بينما أنا ابنة المخيم الأول الذي تأسس عام ١٩٤٨ والمخيم الثاني الذي دُشِّن عام ٢٠١١.
لم أعد في العاشرة من العمر، بل قد بلغت ــ ربما أياماً فقط بعد موتك ــ سنّ «الحكمة» التي ما زلت أبحث في هذه السطور عنها. رفاقك، في ذلك المكان الذي أتمناه أجمل، أصبحوا عشرات الآلاف. تزورني وجوههم جميعاً وهي تحمل ابتسامتك. تسائلني في عملي، وتطلّ على كتابتي. تحاسبني عمّا اقترفت يداي، وما تقاعست عنه. ما الذي بإمكاني أن أقدمه لجيل العشرينيات، أنا وجيلي ممن عاشوا العديد من الحروب التافهة وشاهدوا تفكك إيديولوجيات ثورية وخيانة قادتها كما تغيُّر هوى مناصريها؟ لا يبدو أنّ في جعبتي الكثير، رغم فلسطين وانتفاضاتها، ولبنان وحربه، كما حراكنا الذي تخطى حدود دويلات شرقي المتوسط على مدى عشرين عاماً.
توقفوا عن الصراخ وعن الضجيج، فلم يبق من الانسان فينا شيء سوى الغواط. لنتغوط جماعة علّ التراب يعلو الباطون، فنسمح للياسمين أن يبني له جذراً. بل ربما «اتبع طريقة رجب ذاتها: أن أدفع الامور الى نهايتها... لعل شيئاً بعد ذلك يقع». لقد وقع الانفجار حتماً ولا مكان للاختباء. كل المدن مفتوحة على المستحيل وكل القرى جبهات قتال. أنا لا أحبّ المتاريس ولا أصدّق بأنّها تحمي من تأتي ساعته. رأيتني أمشي معك وسط الشارع ونحن نغني اغنية الطفولة «هيا طر يا غرندايزر». لدينا نقص هائل في أغاني الأطفال ايضاً. ربما لاننا نختصر الطفولة بسرعة هول المصيبة عند سقوط القذيفة وعند اكتشاف قصص رعب المعتقلات في عمر العاشرة.
في شرقيّ المتوسط اليوم، مَن يقتل باسم النظام، ومن يقتل باسم الثورة ومن يهلل لهذا وذاك، وفي جنوبيّه أيضاً وفي امتداده في الصحراء. في صفحات الرأي وفي جلسات المنظرين هناك من يقول: «أنا نبيكم فاتبعوني»، فأرفع رأسي، أشكر السماء أنّها لم تفض بنبوتها على النساء. لا قدرة لي على امتلاك اليقين وفي حالة عدم الوضوح، لا رغبة لي في الوصول إليه. القلق أكثر صدقاً وتواضعاً اليوم. ليس في داخلي من الغرور ما يكفي لأقول إنّ هذا هو الدرب فاتبعوه.
لا يموت أحد، إنّها كلها فبركات الإعلام المزيف. إننا شعوب لا تموت بل تصعد مباشرة إلى السماء. أنا لا أريد أن أصعد إلى السماء! أريد أن أحفر مترين في الأرض لكي أضع رأسي بين روائح الزعتر البري والقصعين وليأكلني الدود. أريد أن أندثر بسلاسة من دون أن يبكيني أحد. إنّ دموع المارة على شبكة الإنترنت تشعرني بالانتهاك والفشل والإرهاق. هذه الصور التي لا تمنع الموت، لا تقوم إلا بتمجيد القتل والقاتل. يا ليتني مت خلال تلك الأيام حيث لم يكن هناك إضاءة. كااااات. توقفوا عن التصوير.
بحثت عن الرواية، لتذكرني بأنّ رجب، بطلها، كان قد خان رفاقه في السجن، وبذلك ضمن خروجه بعد خمس سنوات ولم يضطر إلى إكمال حكماً بأحد عشر عاماً. لم يكن ذاك السجين بطلاً إذاً، أو كان؟ هل وددت لو تحمل أيهم، وعاش ربما لسنين خمس تحت التعذيب؟ هل تمنيت لو أنه أفضى بما يعرف فعاش؟ أي خيار ثوري ذلك الذي لا نختار فيه الحياة، بل موتاً أكثر رحمة؟ ولماذا ما زلنا، جيلاً بعد جيل، الآن هنا، أربعين عاماً بعدما قضى رجب على صفحات رواية منيف؟
لسنا وحدنا ضحايا لعنة الجغرافيا وميثولوجيا طائر الفينيق. أمك ما زالت تحوك لك شالاً تلو آخر بانتظار عودتك لتعيش أو تموت مجدداً، ها هنا عند الناصية حيث كنا نأكل شاورما الدجاج مع الكثير من الثوم. أتذكر حوارنا عندما أهديت إليك «سأخون وطني» للماغوط! أتذكر أنّك وعدتني بأنّنا لا ننتمي إلى خواء البطولة هذا، وبأننا لا نتعاطى السياسة كما تفهم في مجتمعاتنا... سياسة الكذب. ماذا أفعل أنا الآن؟ يا ليت هذا المقال عنك ليس بمقال سياسي. يا ليتنا نستطيع أن نصنع سياسة خارج أقطاب اليقين، سياسة إدارة الحلم في لحظات القلق. سياسة الوجود اليومي خارج سطوة من يحمل الحقيقة مهما كانت جميلة. ما هي الحرية يا أيهم؟ هي عندما كنا نتسابق لنلامس وجه القمر. كيف أعرف الحرية وأنا في حداد؟ حجر مكان قلبي وعقلي يشعر بدوار لا يتوقف! كيف أحميك من موتنا؟ كيف أسامح نفسي؟
في الرواية، ينصح أحدهم رجب قائلاً: «يجب أن تحوّل أحزانك إلى أحقاد، وبهذه الطريقة وحدها يمكن أن تنتصر. أما إذا استسلمت للحزن، فسوف تهزم وتنتهي». لا أحب الحقد، لا أحترمه. لا أحب الحقد، فالحقد يغذيه اليقين والغرور. وربما لا أحب الحزن أيضاً. لكني أجلس إلى جانب هذا الحزن وأرعاه، قد يحميني من الافتتان برأيٍ ما، قد يحميني من اليقين.
يتحول حزني قلقاً، قلقاً أحمله بمشاعري وفكري في آن واحد. قلق يخشى خسارة أيهم آخر، فيتساءل ويُسائل. قلق ينتصر على الاصطفاف والعداء. قلق يدرك أن الدرب اليوم ما زال أطول من أن نتلمس تعرجاته. قلق متواضع لا يدعي امتلاك الحقيقة، ويستمر في البحث والتساؤل.
على تلك الدرب، ابتسامة أيهم بوصلتي لا موته.

بقلم: ايلينا ناصيف ومزنه المصري
نشرت هذه المقالة في ملحق خاص من اعداد "صوت النسوة" على موقع صحيفة الأخبار بمناسبة يوم المرأة العالمي بتاريخ ٨ آذار ٢٠١٣