ياسمينة

كان يملأه رجفة ذاك الصراخ. يشعر وكأن قلبه يرتعش داخل أضلعه كأغصان الياسمينة الرقيقة الرابضة في زاوية الشرفة. ما زال بإمكانه ان يستحضر هذا الشعور اليوم، فيعود طفلاً في الثامنة. هي اليوم مثلها، وكأنه، هو الهارب من ضجة منزل والديه، اختار إعادة تشكيل تلك العائلة في منزله الجديد. بل كأن العلاقات الزوجية، كالأمراض، نتناقلها بالوراثة.

لم يفهم يوماً القلق الساكن فيها، رغم انه ربما يعرفها أكثر من أي شخص. أمه التي يحب. امه المرحة اللاهية، التي تراقصه في ساعات المساء المبكر، وتشاركه ارتشافها لكوب النبيذ .. امه الجميلة، كما نجمات الأفلام الإسبانية، بالشعر الأسود الطويل واحمر الشفاه والكعب العالي. امه تلك التي يحب، كانت كأنها تخفي امرآةً أخرى في داخلها.. امرأة روحها على حافة بركان، يثور فيملأ زوايا المنزل، ويقطن في الوسائد والأسرة، في كوب الشاي ورائحة الخبز، في حمامه الساخن قبل النوم، وفي نعاسه، فيشد جسمه الصغير كوتر قيثارة باكية.

ربما تَعانُق الضوء في الزوايا يعيد تشكيل نفسه بالهيئة ذاتها مرة كل عشرين عاماً.. فيعيد للذاكرة مشاعرها.. فجر ذاك اليوم الخريفي.. وبكرهما ما زال في شهره الأول.. عاد اليه ذاك الاحساس.. كان صدى صوتها ما زال يطوف أرجاء المنزل وهو، في زاوية غرفه نومهما.. في آنٍ الطفل ابن الثامنة، والثلاثيني المتواري مع طفله اتقاء من بركان زوجته. عاد اليه الاحساس والطفل بين يديه مشدود كوتر قيثارة .. أراد أن يرحل معه وبه عن ذاك الخوف الساكن فيه.. بل ربما أراد له أن يعرف ام واحدة دون تلك التي تتقمصها..

أخذه الحلم، في رحلة الشمس الى مساحة أكثر واقعية.. على وقع انفاس طفله ونشيج زوجته من زاوية بعيدة.. أخذه حلمٌ انه ربما لم يزرع ياسمينة في هذا المنزل بعد